الاثنين 08 سبتمبر 2025 - 4:27 AM بتوقيت عدن

"ما يعرف".. وحدة قياس المسافات بين القلوب..!

في كل مرة أجلس فيها مع العائلات وأستمع لحكاياتهم، أجد قاسمًا مشتركًا يتكرر كظل ثقيل في أغلب الحوارات: "هو ما يعرف" أو "أنا ما أعرف". كلمات قصيرة، لكنها تحمل بين حروفها فجوة عاطفية عميقة، وشعورًا بالوحدة حتى داخل إطار الزواج أو الأسرة.

ثمانون بالمئة من المشكلات الزوجية، والانفصال العاطفي، وتصدع البيوت، تبدأ من هذا الإحساس: أن الآخر لا يعرف شيئًا عن الموضوع أو لا يفهمك، أو لا يبذل جهدًا لفهمك. تبدأ بعتاب بسيط: "زوجي ما يعرف ما أحتاج"، أو "زوجتي ما تعرف ما أمرّ به". ومع كل مواجهة، يكبر الجدار الخفي بين الطرفين، حتى يصبح الحوار مجرد تبادل للاتهامات أو صمت مشحون.

إن غياب الحوار داخل الأسرة لا يبقى حبيس الجدران الأربعة، بل يتسرب أثره إلى المجتمع بأكمله.

فمن البيت يبدأ كل شيء، أطفال ينشؤون وهم يظنون أن الإصغاء رفاهية، وأن التعبير عن المشاعر ضعف، وأن الاختلاف معناه الانفصال. وعندما يخرج هؤلاء إلى الشارع أو مكان العمل، يصبح من السهل أن تتفشى بيننا ثقافة القطيعة بدل الجسور، والاتهام بدل الفهم، والظن بدل الإصغاء. فالحوار المفقود يبدأ من جدران البيوت ومنه تتفشى الأزمات في المجتمع.

إن الحوار ليس رفاهية ولا وقتًا مستقطعًا، بل هو العمود الفقري للعلاقات. هو الأكسجين الذي يمنح المشاعر الحياة، والمساحة التي يلتقي فيها القلبان على أرض مشتركة. غرس ثقافة الحوار يبدأ من أبسط اللحظات في البيت: من جلسة العشاء التي نتحدث فيها عن يومنا، من الإصغاء الحقيقي دون مقاطعة، من تقبّل مشاعر الآخر حتى إن اختلفنا معها.

فأيهم يبدأ بالحوار ؟

إذا أردنا لمجتمعنا أن يتنفس هواءً نقيًا خاليًا من غبار سوء الفهم، فعلينا أن نعلّم أبناءنا أن الإصغاء فهم، وأن السؤال جسر، وأن "أنت ما تعرف" ليست نهاية الحديث، بل دعوة لبداية حديث أعمق. فالمجتمع الذي لا يحاور في بيته، لن يحاور في ساحاته، ولن يحاور في أزماته.

الحوار هو بذرة السلام، وإذا لم نزرعها في البيت، فلن نجدها في الوطن

مشاركة المقال